محمد علي باشا
مولده ونشاته:
وُلد
محمد علي باشا ابن إبراهيم أغا من سلالة ألبانية ببلدة "قَوَلَة" أحد
المواني الصغيرة التي على الحدود بين تراقية ومقدونية وهو العام الذي وُلد فيه
"ولنجتون" القائد الإنجليزي العظيم "ونابليون" الفاتح الكبير.
تعرف على محمد على ورئاسة الجند وقضائه على المماليك وتوصيد سلطته على مصر
وفاة والده وطفولته:
تُوفِّي
والده إبراهيم أغا وهو في سن الطفولة، فتولى أمره عمه "طوسون"، غير أن
هذا وافته منيته بعد مدة وجيزة، فقام بأمر تربيته أحد أصدقاء والده، وقد تبنَّاه
وعُني به حتى بلغ الثامنة عشرة من عمره، فتعلم طرفًا من الفروسية واللعب بالسيف،
ثم زوَّجه إحدى قريباته، وكانت من ذوات اليسار. وخدم حاكم قولة، واكتسب رضاه بما
كان يأتيه من ضروب المهارة والحذق في جباية الأموال من القرى المجاورة التي كانت
لا تؤدي ما عليها إلا بالشدة واستعمال القوة الجبرية، وأعانته ثروة زوجته على
الاتجار في الدخان، فاصطحب المسيو "ليون" أحد صغار التجار - ويغلب أنه
كان وكيلًا لأحد المحال التجارية بمرسيليا مسقط رأسه - وشاركه في الاتجار في هذا
الصنف، فلم تَعُدْ عليه هذه التجارة بالأرباح الطائلة، إلا أنه استفاد فائدة جمة
من مرافقته للمسيو "ليون"؛ فاكتسب منه كثيرًا من العادات والآداب
الفرنسية التي تركت في نفسه أثرًا عظيمًا، وساعدته مساعدة كبيرة في بقية أطوار
حياته.
هذا كل
ما رواه التاريخ من سيرته الأولى، وهو يحملنا على أن نترك الثلاثين سنة الأولى من
تاريخ حياته صحيفة بيضاء؛ وذلك أمر لا بد منه لمن نشأ في بلدة صغيرة لم تكن ذات
شأن كبير من قبل.
الدولة العثمانية في إبَّان شبابه:
وقبل أن
نشرح طريقة استيلاء محمد علي على الديار المصرية وإبادته للمماليك يجب علينا أن
نصف حالة الدولة العثمانية في إبَّان شبابه، حتى يتمكَّن القارئ من الوقوف على سر
نجاحه:
كانت
الدولة العثمانية إذ ذاك مكوَّنة من عدة شعوب مختلفة، ذوي أديان متباينة ونِحَل
متضادة؛ مما طرَّق إليها الضعف، وأدخل عليها الوَهَنَ والاختلال الذي كاد يبلغ
أقصاه في عصر محمد علي؛ إذ قد بدأ في عهد صغره أمر "علي باشا والي
يانينة"، وهو أيضًا من الألبانيين: أولئك القوم الذين فتحوا الشرق بقيادة
الإسكندر، واستوطنوا مصر في عهد البطالسة، وهدَّدوا رومية في زمن بيروس. خرج ذلك
الرجل على دولته، فنكث فَتْلها، وأقلق بالها، واستقل بأمر ألبانيا مدة خمسين عامًا
انتهت بقتله غِيلة سنة
وكانت
كذلك جميع أجزاء الدولة مفككة العُرى ثائرة على الباب العالي؛ فمصر والأناضول وسورية
كلها كانت في فتن وقلاقل، وبلاد العرب مع الدولة في حرب عوان، وكانت الولاة في
يانينة وبغداد كأمراء مستقلين، واستقلَّ بالفعل في عكاء أحمد باشا الجزَّار، وشرع
يحذو حذوه معظم ولاة الدولة، ووقف دولاب أعمال الحكومة الداخلية جملة، وكان الجيش
مؤلفًا من رعاع الناس وسِفْلَتهم، وكان السلطان أشبه بسجين أو ألعوبة في يد وزرائه
وعساكره الإنكشارية، وكان الباب العالي مكوَّنًا من فئة الوزراء الذين يتهددهم
الخطر في كل لحظة؛ فقد كان كلٌّ منهم يتحيَّن الفرص لاغتيال زميله، أو للسعي في
عزل السلطان وتولية غيره؛ ليكون هو الصدر الأعظم الجديد.
تلك
كانت حال الدولة بالاختصار في شبيبة محمد علي، ومنها يسهل تفهم أطوار حياته
وعلاقته مع الدولة.
تعرف على شخصية نابليون بونابرت واهم انجازاته
الثلاثين من عمره
بلغ
محمد علي الثلاثين من عمره وكان لا يزال في مسقط رأسه بين أولاده الثلاثة: إبراهيم
وطوسون وإسماعيل. وقد ذكرنا أن تجارة الدخان لم تَعُدْ عليه بربح طائل؛ لذلك كان
ميالًا للاحتراف بمهنة أخرى، فلم يلبث إلا قليلًا حتى دخل في طور جديد من أطوار
حياته، والسبب في ذلك يرجع إلى الحملة الفرنسية على مصر.
الحرب على الفرنسيين لغزوهم مصر:
وذلك
أعلن الخليفة الحرب على الفرنسيين لغزوهم مصر، فأصدر الأوامر بجمع الجيوش من أنحاء
الدولة، فجمع حاكم قولة "الشربجي" فرقة من الجنود المتطوعين -الباش
بُزُق - بقيادة ابنه "علي أغا"، ورافق محمد علي هذه الفرقة وكيلًا له
عليها، فتوجهت بطريق البحر إلى الدردنيل، ومن ثَمَّةَ انضمت إلى عامة الجيش في
جزيرة رودس.
ميناء ابوقير:
ولما
وصل الجيش إلى ميناء بوقير من الديار المصرية التحم بالجيش الفرنسي، فكانت الدائرة
على الترك، واضطرهم الفرنسيون إلى الالتجاء لسفنهم وسفن الإنجليز المرافقة لها بعد
مذبحة شنيعة. وكان محمد علي قد أشرف على الغرق لولا أن قيض الله له "السير
سِدْني سِمث" فانتشله من الماء بيده وأنزله في سفينته.
وبعد
ذلك رجع محمد علي إلى بلدته، ثم عاد مع جيش "القبطان حسين باشا" الذي
جاء ليساعد القائد الإنجليزي "أبِرْكُرومبي" على إجلاء الفرنسيين. ومن
هذا الوقت بقي في مصر حتى صار واليًا عليها.
وقد نال
إعجاب قائده والقوَّاد الإنجليز بما كان يأتيه من ضروب الشجاعة وشدة البأس عند
هجومه على حصن الرحمانية؛ إذ دخله عنوة بعد أن اضطر القائد الفرنسي إلى إخلائه؛
وكان هذا سببًا في رقيه إلى رتبة قائد في الجيش.
نهوض محمد علي:
بعد
إخلاء الحملة الفرنسية البلاد ورجوعها إلى فرنسا ابتدأت جماعة المماليك تشْرئبُّ
أعناقها لأن تقبض على زمام الأمور في البلاد كما كانت من قبل، في حين أن الباب
العاليَ كان يطمح إلى طرد المماليك من الديار المصرية، واسترجاعها بعد أن اغتُصبت
منه مدة من الزمان، لكن المقادير جاءت بعكس ما أمل الفريقان؛ إذ أراد الله أن تكون
نصيبًا لمحمد علي.
بدأ
النزاع بين الباب العالي والمماليك عندما أراد الأول أن يستقل بالسيادة في مصر،
فاستخدم للتغلب عليهم طريقة غير مقبولة؛ وذلك أن القبطان حسين باشا دعا البكوات
العظام من حزب مراد بك إلى معسكر بوقير، بعلَّة التفاوض معهم في صيرورة حكومة مصر،
فكان معظمهم غير مرتاح البال إلى هذه الدعوة، إلا أن خوفهم من نزع السلطة كلها من
أيديهم حملهم على تلبيتها، وطَمأن خاطرهم قربُ معسكر القائد "هتشنسون"
الإنجليزي.
قابلهم
الباشا القبطان بتهلُّل واستبشار وأكرم مثواهم، ثم دعاهم إلى ركوب زورق له لزيارة
القائد الإنجليزي، بحجة أنه يريد أن يتفاوض معه أيضًا، ولما بعدوا عن الشاطئ
قليلًا لحقه زورق يحمل بعض الأوراق، فاستأذنهم ليقرأها على انفراد وترك الزورق بمن
فيه من البكوات؛ فظهر لهم عند ذلك أنه يريد بهم سوءًا، فأمروا النواتي بالرجوع
فامتنعوا وأطلقوا عليهم النار، فقتلوا ثلاثة وجُرح عثمان بك البرديسي واثنان
آخران، فلما علم القائد الإنجليزي بذلك استشاط غضبًا، فاعتذر له الباشا القبطان
بأسباب واهية. وفي الوقت الذي حدثت فيه تلك الحادثة عند ساحل البحر كانت تمثَّل
الرواية نفسها في القاهرة، وقد احتمى معظم من بها من البكوات بالمعسكر الإنجليزي
فيها، فأسعفهم القائد "رَمْزي" رغم إلحاح الصدر الأعظم في تسليمهم إليه؛
فكانت هذه الحادثة مدعاة إلى اشتعال نيران الحقد في صدور المماليك، وقد زادها
لهيبًا جعل "محمد خُسْرُو" مملوك الباشا القبطان واليًا على مصر ،حصَّل
له القبطان ذلك المنصب بتوسط الصدر الأعظم يوسف باشا لدى الباب العالي.
تعرف على شخصية نيلسون ولويس الرابع عشر واهم اعماله
ويُعتبر خسرو باشا الوالي الجديد على الديار المصرية :
من أشهر
رجال الترك في القرن الثالث عشر، وكان ذا حُظْوة عظيمة لدى السلطان، وقد خاصم محمد
علي مدة نصف قرن كان في أثنائها عدوَّه المبين لأسباب سنذكرها في موضعها. وكان من
الذين يُعتدُّ برأيهم في جسام الأمور ومعضلات السياسة كما سيجيء، ولا يُعزَى فشلُه
في مصر إلى قلة الذكاء والشجاعة، بل لأنه ابتدأ حروبًا داخلية في وقت كانت فيه
خزانته خلوًا وجيشه غير مدرب، على قوة عظيمة من فرسان المماليك الذين كان في
قبضتهم خيرات البلاد وفيضُها.
ومن
العبث أن نتجاهل ما كان للمماليك من المزايا العظيمة التي يمتازون بها على الأتراك
في حربهم لهم؛ وذلك لأنهم التحموا بالجيوش الفرنسية أكثر من الأتراك، فاقتبسوا من
طرقهم الحربية ما زادهم فَوْقًا على الأتراك، ذلك إلى أنهم يعرفون البلاد أكثر من
جنود الترك الذين وصلوا إليها حديثًا، وأنهم كانوا لا يزالون أصحاب النفوذ
والسلطان في البلاد.
فلما
أراد "خسرو" مطاردتهم ونزْع البلاد من أيديهم، ظهرت كل هذه العقبات
أمامه، فضلًا عن أنهم القابضون على أَزِمَّة الأحكام في المديريات، فأصبح القصد
إذنْ من حربه لهم انتزاعَ البلاد من قبضتهم؛ فأرسل لذلك "طاهر باشا"
قائد الألبانيين بجيش كان نصيبه الخيبة والفشل، وطارده عثمان بك البرديسي قائد
المماليك من الوجه القبلي إلى الوجه البحري حتى ساحل البحر. ولما وصلت أخبار هذه
الهزيمة إلى خسرو أعدَّ مددًا أرسله بقيادة محمد علي، وكان ممن نال ثقة خسرو في
هذا الحين، إلا أن عثمان بك بادر إلى مناجزة الجيش التركي قبل أن يصل إليه المدد
الذي كان يقوده محمد علي، وبدَّد شمله.
هزيمة خسرو:
فلما
علم خسرو بالهزيمة الثانية وجَّه لومًا إلى الألبانيين وخاصة إلى محمد علي، وأراد
أن يحاكمه على تقصيره أمام مجلس عسكري، وكان غرضه بذلك اغتياله، فامتنع محمد علي
عن الحضور، ومن هذا العهد ابتدأت بذور العداوة تنبت بين هذين الرجلين؛ تلك العداوة
التي فتَّت في عضد الدولة ومزَّقت أحشاءها كلَّ ممزق.
وبعد
الهزيمة الأخيرة أبت عساكر الترك الحرب كل الإباء لتأخر رواتبهم، وثاروا وحاصروا
الخزانة ونهبوا وسلبوا القاهرة، فاعتصم خسرو بالقلعة، وأصلى العصاة منها نار
حامية، فأراد إذ ذاك طاهر باشا قائد فرقة الألبانيين - وعددهم ???? - أن يتوسط بين
خسرو والعصاة، فأبى خسرو وساطته، فانضم إلى العصاة عليه، ولما لم يجد خسرو لديه
حينئذٍ جندًا تحميه ولَّى هاربًا إلى دمياط، وبقي بها ينتظر فرصة يسترد بها ما
فقده.
ولما
علم طاهر بذلك جمع رءوس العلماء وأشراف العاصمة وشاورهم في الأمر، فرضُوا أن يكون
نائبًا عن الوالي عليهم، فأعلن أنه هو الحاكم على مصر حتى يولِّيَ الباب العالي
خلفًا لخسرو باشا، وذلك وكان من سوء طالع طاهر باشا أنه وقع في نفس الحيرة التي
وقع فيها خسرو؛ إذ لم يمكنه دفع مؤخر رواتب الجند، وبعد يومًا من قبضه على زمام
الأحكام تألَّب عليه الجند، واغتاله ضابطان - موسى أغا وإسماعيل أغا - بعد أن
تظلَّما له من تأخير رواتب الجنود.
مع تمنياتى بالسعادة